اتفاقية سايكس بيكو- مئة عام من التمزق وتحديات الوحدة العربية.

المؤلف: صدقة يحيى فاضل09.06.2025
اتفاقية سايكس بيكو- مئة عام من التمزق وتحديات الوحدة العربية.

مع إطلالة يوم الجمعة الواقع في السادس عشر من مايو لعام 2025 ميلادية، والذي يصادف الثامن عشر من شهر شوال لعام 1446 هجرية، نكون قد استقبلنا الذكرى الـ 109 لاتفاقية سايكس - بيكو الاستعمارية المشؤومة. هذه الاتفاقية التي رزحت تحت وطأتها المنطقة العربية، ولا تزال تعاني من تداعياتها السلبية الوخيمة حتى يومنا هذا. ففي مثل هذا اليوم من عام 1916، أي قبل قرن ونيف من الزمان، أبرمت هذه الاتفاقية السيئة الصيت بين كل من بريطانيا وفرنسا، والتي تم بموجبها تقسيم الوطن العربي، وتقاسم أراضيه وثرواته بين هاتين الدولتين الاستعماريتين. وقد قام بتوقيع الاتفاقية عن الجانب البريطاني الدبلوماسي مارك سايكس، وعن الجانب الفرنسي الدبلوماسي فرانسوا جورج بيكو، ولا غرابة في أن عرفت هذه الاتفاقية باسميهما.

لقد كانت هذه المعاهدة اتفاقاً سرياً بين بريطانيا وفرنسا، وقد شاركت فيه روسيا القيصرية آنذاك، التي كانت تتطلع إلى بسط نفوذها في المنطقة. بيد أن هذه الدولة سرعان ما سقطت في خضم الثورة البلشفية التي اندلعت في روسيا في أكتوبر من عام 1917. وكان الزعماء البلاشفة الروس الشيوعيون هم أول من كشف عن هذه الاتفاقية، الأمر الذي أثار موجة عارمة من الغضب والاستياء في الأوساط العربية والعالمية. ومما نجم عن ذلك اندلاع الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين. وتحت وطأة الضغوط المتزايدة، الناجمة عن ردود الفعل العربية والعالمية الغاضبة، اضطرت بريطانيا إلى إجراء تعديلات طفيفة على الاتفاقية، وهو ما أفضى إلى قيام بعض الدول العربية شبه المستقلة.

ولكن بريطانيا، للأسف الشديد، سرعان ما نكثت بوعودها للعرب، وأصدرت في الثاني من نوفمبر لعام 1917 وعداً بمنح فلسطين للحركة الصهيونية، بهدف إقامة "وطن قومي لليهود" فيها. وهو ما عرف لاحقاً بـ "وعد بلفور" المشؤوم، نسبة إلى وزير الخارجية البريطاني آنذاك. وبذلك، وضعت بريطانيا الأساس لإنشاء دولة إسرائيل، ومنحت أرضاً لا تملكها لعصابات لا تستحقها. ولم تكتف بريطانيا بذلك، بل عملت على تسهيل قيام الكيان الصهيوني ودعمه بكل ما أوتيت من قوة، حتى يومنا هذا، بعد أن زرعته في قلب الأمة العربية. وما زال هذا الدعم مستمراً إلى الآن.

ولامتصاص الشعور القومي العربي المتنامي في تلك الحقبة، والذي كان يدعو إلى الوحدة العربية، عمدت بريطانيا إلى تأسيس "جامعة الدول العربية" بميثاقها المعروف. هذا الميثاق الذي يوحد العرب اسمياً، ولكنه في الواقع العملي يفرقهم ويمزقهم شر ممزق، كما يعلم الجميع. ومع ذلك، لا ينبغي أن نلقي باللوم على بريطانيا وحدها بسبب هذه الفرقة والتشتت، إذ يتحمل أغلب العرب، على مر التاريخ وإلى يومنا هذا، ولا سيما نخبهم السياسية والفكرية، المسؤولية الكبرى عن هذا الوضع المزري.



بدأت التمهيدات لإبرام معاهدة سايكس – بيكو خلال الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في عام 1914 واستمرت حتى عام 1918. وفي تلك الفترة، كانت الدولة العثمانية تعيش أزهى عصور ضعفها، حتى أطلق عليها لقب "الرجل المريض". وقد أصبحت مناطق نفوذها وممتلكاتها وسيادتها مطمعاً للمستعمرين والطامعين الأوروبيين، الذين انقضوا عليها بشراسة لا مثيل لها. وقد سبق إبرام هذا الاتفاق عقد مفاوضات سرية بين بريطانيا وفرنسا لتقاسم العالم العربي بعد تقسيمه، وتم تكليف فرانسوا بيكو ومارك سايكس بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وإكمال إجراءات التقسيم المقترح، والعمل على ترجمة هذه القسمة المبيتة على أرض الواقع.

تم إحضار خريطة للمنطقة، والشروع في رسم الحدود المقترحة لمعظم بلدانها. وقام سايكس برسم خط فاصل يمتد من مدينة عكا في فلسطين إلى مدينة كركوك في العراق، قاصداً بذلك تقسيم المنطقة إلى نصفين، دون أدنى مراعاة للاختلافات العرقية والمذهبية بين سكانها. وبموجب هذا التقسيم، مُنحت سوريا والمناطق المجاورة لها للفرنسيين، بينما مُنح العراق وجنوب شبه الجزيرة العربية للبريطانيين، وكذلك بقية المناطق وفقاً للتقسيم الذي استمر حتى وقتنا الحاضر. والجدير بالذكر أنه لم يتم تأسيس دولة كردية مستقلة حتى الآن.

وبعد انكشاف أمر هذه الاتفاقية السرية، وقع البريطانيون والفرنسيون في حرج شديد أمام المجتمع الدولي، خاصة في فترة كان المجتمع الدولي فيها يسعى جاهداً لإنهاء الاستعمار القديم. وتخفيفاً لهذا الحرج، حاولت بريطانيا وفرنسا إيهام العالم بأنهما من خلال هذا الاتفاق تمهدان الطريق لاستقلال هذه البلدان بشكل رسمي. ومع ذلك، تم التأكيد على مضمون هذه الاتفاقية في مؤتمر سان ريمو عام 1920، ثم أقر مجلس عصبة الأمم وثائق "الانتداب" على المناطق المعنية، وفقاً لما اتفق عليه سايكس وبيكو.

كما أكدت معاهدة لوزان عام 1923 ما تم الاتفاق عليه سابقاً، مع إجراء تعديلات طفيفة شملت التنازل عن أجزاء من شمال سوريا لتركيا، وغيرها من التعديلات. وفي منطقة المغرب العربي، تناوبت كل من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا على رسم الحدود بين بلدان المغرب العربي. وفي نهاية المطاف، أصبح هناك 22 دولة عربية بحدود تم التوافق عليها على الصعيدين الدولي والعربي.

ويمكن القول إن أسوأ ما أسفرت عنه اتفاقية سايكس – بيكو هو تمزيق العالم العربي، ورسم حدوده على نحو يخدم مصالح الغرباء والمستعمرين، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى نشوء مشاكل عربية - عربية لا حصر لها. هذا بالإضافة إلى زرع الكيان الصهيوني الدخيل في قلب الوطن العربي، ليكون بمثابة قاعدة متقدمة تهدف إلى إيذاء وإضعاف وتدمير هذا الوطن الكبير، وعرقلة أي محاولة جادة له للنهوض والازدهار والوحدة. وقد ظل الكيان الصهيوني يضطلع بدوره الهدام هذا منذ نشأته في عام 1948. وفي وقت لاحق، قامت فرنسا وبريطانيا بتسليم الراية (المنطقة) إلى أمريكا، التي بدورها واصلت النهج نفسه، بل وطبقته بأضعاف مضاعفة، الأمر الذي جعل المأساة أشد إيلاماً وأكثر خطورة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة